الفراغ الروحي
عصرنا الحالي مليء بالملاهي و المرغيات. فيمكن مشاهدة آلاف من الأفلام أو تصفح الأنتيرنيت أو قراءة ملايين من القصص و الكتب أو اللعب بالألعاب الإلكترونية أو الركض في الهواء الطلق أو الجلوس في المقهى أو تنظيم أمسية مع الأصدقاء أو العائلة و ما إلى ذلك.
هذه الأنشطة و غيرها متاحة لعامة الناس. فأنت لا تحتاج إلى أن تكون بورجوازيا أو استقراطيا أو ذو مكانة للوصول إلى هذه الأنشطة التي ذكرتها.
و إن كان إلى عهد قريب، كنت تحتاج أن تكون من علية القوم لممارسة بعضا من هذه الأنشطة، أما البعض الآخر منها فحتى لو كنت إمبراطورا في العصر الماضي ما كنت لتصل إليها و تتمتع بها.
ففي عصرنا الحالي، الإنسان يعيش في حالة من الرفاهية و الاستمتاع ما كان لملوك العصور الوسطى أن يحظوا بها، من بينها و ليس للحصر الاستحمام بالماء الساخن في حمام عصري جميل تنبعث منه رائحة البخور العطرة و منتجات العناية بالجسم المنعشة.
و مع ذلك، فكثيرا ما نجد أنفسنا نتذمر و نشتكي من الملل و الفراغ. أو تجدنا ننغمس في برامج و أفلام و أنشطة تافهة بدون رغبة حقيقية فقط لجعل الوقت يمضي.
و المفارقة الظريفة هو أن الجيل الحالي يشعر بالملل أكثر بكثير من الجيل السابق. فأمهاتنا مثلا كن غارقات في أشغال منزلية حاليا تكاد تنقرض كتحضير الخبز اليومي، و حلوى العيد و زيارة الجيران و حياكة الملابس.
فهن ما كن ليشعرن بالوقت يمضي بدون عمل شيء ما، فكن يشغلن أنفسهن. و لكن لم يشعرن بالملل لأن ما كن يقمن به كان مفيدا و له معنى. فهن كن يسخرن و قتهن لتربية جيل جديد و هي رسالة نبيلة تبعث الحيوية و النشاط في قلبهم رغم التعب و رغم ظروف المعيشة المضني.
أما حاليا، فهناك غياب كبير للمعاني الروحية في حياتنا. و هذا بالضبط ما يجعل الإنسان يشعر بالفراغ و الملل مهما تعددت وسائل الترفيه و الأنشطة الخارجية.
كنت أتمشى على شاطئ البحر مع صديقة عزيزة علي. و أثارنا منظر رجل يتمشى هو الآخر و لكن و هو ينقب بآلة البحث عن المعادن و كان يبدو عليه الانغماس في عمله و الاستمتاع بالبحر. فأطلقنا عليه لقب " الرجل المفيد". لأنه في نفس الفعل الذي يقوم به مئات المصطافين أي المشي على الشاطئ، هو حاول أن يجد معنى و فائدة في هذا الفعل بدل المشي بدون قصد.
فالروح بحاجة يومية إلى التوسع، و لتتوسع نحتاج أن نعطي لأفعالنا و أنشطتنا معنى. فأحسن طريقة لمحاربة الملل و الفراغ الروحي هو ألا تكتفي فقط بممارسة أنشطة مختلفة تهرب منها من واقعك و من نفسك بل اجعل كل نشاط مهما بدا صغيرا وسيلة لمعرفة نفسك أكثر و التقرب من روحك أكثر.
فاجعل من المشي على شاطئ البحر وسيلة لتتدبر في عظمة الله و كونه الواسع و فرصة لتتأمل في الناس من حولك.
و من مشاهدة الأفلام و قراءة الكتب و سيلة لتوسع فيها خبراتك و لينفتح فيها عقلك بتجارب و إبداعات الآخرين.
و اجعل من اللعب تحدي لتتجاوز قدرات نفسك.
و لكن كل هذا لن ينفع أيضا إذا لم يكن لك هدف نبيل تسعى إليه لأننا وجدنا من أجل خدمة و تعمير هذه الأرض و إذا ابتعدنا عن هذه الغاية فلا محالة سنشعر بالفراغ الروحي مهما انغمسنا في الحياة .
![]() |
العمل اليدوي يمنح للروح سكينة و يشعرها بقيمة الوجود |