الضباب
جلست فوق صخرة في ضفة النهر، تسمع تلاطم الأمواج و تتأمل في العصافير و هي تطير من مكان إلى مكان بلا عنوان. عنوانها سماء البحر الواسعة و استراحتها اليابسة.
تحط على ضفة البحر كلما أصابها التعب، أو بدا لها حوت صغير تأكله.
سرح خيالها مع لوحة الرسام الألماني " مسافر فوق بحر الضباب"، تخيلت نفسها مثل بطل الرسمة و هي هائمة بين السماء و الأرض و البحر.
هل تملك حقا شيئا ما في حياتها أم هي المملوكة لهذا الكون؟
تأملت يدها. و دمدمت مع نفسها:" هي يدي الآن و لكن يمكن في أي لحظة أن أفقدها. عقلي يمكنني أن أفقده، حواسي روحي جسدي... يمكن أن أفقد كل هذا في كل لحظة. فماذا أملك حقا؟"
تأملت العصافير، وجدتها تتمشى بسرب صغير على ضفة البحر، تلتقط الحب و منغمسة تماما فيما تفعله، ثم طارت في السماء لا تبدو منشغلة بشيء على الإطلاق يفسد مزاجها.
تأملت الأمواج و هي تتلاطم مع الصخور، ثم ركزت وعيها حيال الصخور. بدت لها الصخور مفعمة بالحياة: موجودة و لها كينونة. يشع منها قوة هادئة واثقة. و مع أنه في كل لطمة موجة، تسحب الموجة جزءا من جسد الصخرة، إلا أن الصخرة نفسها لا يبدو عليها أنها تبالي و لا أنها تفقد شيئا من حضورها من كاريزمتها من قوتها من ثباتها.
اختفت الشمس وراء السحاب، كيف لسحابة عابرة يمكنها أن تغطي ضوء و أشعة الشمس الحارقة؟ و لكن السحابة فعلتها.
و الشمس لا تبدو غاضبة أو متوترة، و لا يبدو عليها أنها شعرت بالإهانة لأن السحاب حجبها عن العالمين. هي الأخرى لا تبدو مهتمة. تركت السحابة تمر و تمضي لتظهر من جديد كأن لا شيء وقع.
ثم راحت تتأمل الشمس، بدت لها دافئة مشعة و بها رهبة و غموض.
أخذت تتأمل الأشياء حولها بصمت. هذه المرة لم تتأملهم كأشكال و ألوان و أطياف تتشكل من خلالها، و لكنها تأملتهم ككينونة كوجود كطاقة تنبعث منهم كحياة تشكل الوجود و الكون.
و فهمت ماذا تملك حقا، هي و كل الكائنات الموجودة حولها. إنها تملك اللحظة التي تشكلها. و كيف تشكل هي اللحظة؟ بالضبط كما تشكلها الصخرة و العصافير و الشمس و الأمواج... بالكينونة الداخلية، بتلك القوة و الحرارة و الطاقة التي تشع من داخلهم و التي تجعل الصخرة قوية و الأمواج مضطربة هائجة و العصافير مستكينة و الشمس ساطعة.
بيد أن الإنسان يمكنه أن يكون كل هذا، يمكنه أن يشكل كينونته كما يشاء. يمكنه أن يكون مضطربا و يمكنه أن يكون قويا و يمكنه أن يكون قاسيا و يمكنه أن يكون مدمرا كالإعصار.
شعرت بالبهجة، و بدا لها أن الكون كله ملك لها و هي الأخرى ملك للكون. و تأملت جمال اللحظة و ذهنها صافي لم يعد يشغله شيء.