الذهن الصافي
" العمل الملائم للذهن هو ممارسة الاختيار و الرفض و التوق و النفور و الاستعداد و الغاية و القبول. ماذا إذن يمكن أن يلوث أو يعوق عمليات الذهن الملائمة؟ لا شيء سوى قراراته الفاسدة. " إيكتيتوس. فيلسوف يوناني
هكذا تحدث الفيلسوف اليوناني منذ ألفين سنة تقريبا عن المهام السبعة التي خلق الذهن من أجلها، و أكد بأنه أي انحراف عليها هو نوع من الفساد لهذه الهبة التي أوجدها الله للإنسان لتخدمه.
فمثلا العين و جدت لترى الخير و الجمال في هذا العالم، و لكن إذا وظفها الإنسان في رؤية المحرمات و الفواحش فإنها تفسد و تخرج الإنسان عن طريق الهداية.
و الأذن وجدت لنسمع بها ما ينفعنا و إذا وظفناها في سماع القيل و القال فإنها تخرج بنا عن الصواب.
و اللسان و جد ليقول الكلام الطيب و المفيد، و متى امتهن لغو الحديث و استحلى البذيئ من الكلام فإنه يتيه في سفاسف الأمور و توافها و يفقد الحكمة و الاحترام.
و إذن، و كما مختلف الأعضاء التي وهبها الله لنا من سمع و بصر و لسان و ذوق و لمس تحتاج إلى تهذيب و ترويض منا لنستخدمها فيما ينفعنا، فكذلك الذهن يحتاج منا إلى ترويض و تهذيب لنستغله فيما ينفعنا فقط.
إذن لنتأمل حكمة الفيلسوف اليوناني، و لنتدبر المهام الصحيحة لذهن صافي و سليم التي لو ركز عليها فإنه سيعمل من أجل مصلحتنا و لصالحنا، أما إذا انحرفنا إلى عكسها فإننا سنحصل على ذهن ملوث سيعمل ضدنا و سيجعلنا نعيش جحيم دار الدنيا قبل الآخرة.
1 - المهمة الأولى: الاختيار
فالاختيار يعني أن تفكر أولا بشكل صحيح و بوعي كامل ثم تفعل الفعل الصحيح انطلاقا من هذا التفكير الصحيح. و لكن كيف يمكن أن أعرف بأن تفكيري صحيحا و سليما؟ هو ببساطة عندما تفكر بعيدا عن الهوى و عن ظلمات النفس. فترى الأمور كما هي حقا و ليس كما تريد أن تراها نفسك.
و هنا أستحضر دعاء الرسول صلى الله عليه و سلم: " اللهم أرني الحق حقا و ارزقني اتباعه و أرني الباطل باطلا و ارزقني اجتنابه". فالرسول صلى الله عليه و سلم لم يسأل فقط أن يرى الحق و لكن سأل أيضا العمل به. أي التفكير الصحيح المقرون بالفعل الصحيح و هي المهمة التي على الذهن أن يشتغل بها في نظر الفيلسوف اليوناني إيكتيتوس.
2 - المهمة الثانية: الرفض للمغريات
فطريق الإنسان في هذه الأرض مليء بالفخاخ. التي قد تظهر بألوان و طرق مختلفة. فتارة تظهر على شكل مغريات، و تارة على شكل رغبات، و تارة أخرى على شكل أطماع... فالذهن الصافي يكون قادرا على رفض تلك المغريات، أما الاستسلام لها سيجعل الذهن ملوثا غير قادر على أن يرى الفساد و الشر الذي يختبئ وراءها.
3- المهمة الثالثة: التوق للتحسن المستمر
و هي ما تعرف حاليا بنظرية كايزن للتحسن المستمر. فالذهن الصافي هو في حالة اشتغال دائم للتفكير فيما قد يجعلك تتحسن.
فالذهن الصافي، عندما يستيقظ كل صباح، يسأل هذه الأسئلة الثلاث و يعمل على الإجابة عليها:
- ما هو التحدي الذي سأقوم به اليوم؟
- ما الذي أعمله اليوم لأكون أفضل من الأمس؟
- ما الذي أعمله غدا لأكون أفضل من اليوم؟
4- المهمة الرابعة: النفور من السلبية و من التأثيرات السلبية و من الزيف
فإذا كان ذهنك صافيا، فإنه سوف لن يتأثر بالطاقات السلبية المحيطة حوله، و لن يجعلك تغرق في زيف المظاهر و حب الظهور و الشهرة.
فالذهن الصافي يركز على الأهداف اليومية النبيلة و على الاختيار و الفعل الصحيح. و لهذا فهو لا يهتم بمن يحاول أن يحبط عزيمته أو أن يدخله في دوامة من السلبية. فالذهن الصافي يلتقط الإيجابية في الفعل و العمل و ينفر من الطاقات السلبية و يتجاهلها و يبتعد عنها.
5- المهمة الخامسة: الاستعداد
فالذهن الصافي ليس بذهن أبله غارق في التفاؤل الأعمى و يتجاهل أي نوع من المخاطربدعوى ألا يفكر في السلبية. و لكنه ذهن يستعد لما قد يمكن أن يحصل في المستقبل و يعد له ما استطاع من الحلول و السيناريوهات المناسبة. فهو ذهن يواجه الواقع كما هو حقا، و لكنه في نفس الوقت يبحث عن حلول تكون ملاذه الآمن إذا وقع شر ما.
6- المهمة السادسة: الغاية
فالذهن الصافي في كل فعل يقوم به تكون له غاية و نية قبلية يدركها. فهو لا يتصرف بغير هدى أو بعبث. و لكنه يزن الأمور وفق مقاصد يريد أن يصل إليها. فالذهن الصافي يرى طريقه بوضوح و يمشي فيه.
7- المهمة السابعة: القبول
فالذهن الصافي يدرك بأنه هناك أمور يمكنه أن يتحكم فيها و هناك أمورا لا يمكنه أن يتحكم فيها و عليه أن يتقبلها كما هي .
و حسب الفيلسوف الروماني سينكا فإن الإنسان لا يمكنه أن يتحكم في أمور كثيرة، فهو مثلا لا يمكنه أن يتحكم في جسده لأنه قد يمرض و قد يصاب بحادث فتبتر يده أو أحد أعضائه.
كما أنه لا يمكنه أن يتحكم في ممتلكاته و لا سمعته و لا مكانته الاجتماعية. و لكن بالمقابل الإنسان يمكنه أن يتحكم في أفكاره و آرائه و خياراته و أفعاله و رغباته.
إذن عليه أن يتقبل ما لا يمكنه أن يتحكم فيه، و يعمل على مراقبة و تحسين ما يمكنه أن يتحكم فيه.
فبماذا ينفع اللوم في أمور لا نتحكم فيها أصلا؟
إذن بالنسبة للفيلسوف أكتيتوس، هذه المهام السبع هي بالضبط ما على الذهن أن يفعله. و أي انحراف عليها، سيجعل ذهن الإنسان ملوثا و فاسدا و لن ينتج إلا حياة شقية.
![]() |
من بين أصعب اختبارات الإنسان في الحياة حسن استخدامه للعقل، فهو تمرين مستمر ينتهي عند الموت |