امنح كل ذرة فيك
جرب أن تدخل البحر، و تضع فقط رجلك أو بعض أطرافك. فإنك في الغالب ستشعر بالبرد و سينتابك شعور أن تتراجع عن الغطس. و لكن ما إن تقرر أن تغطس كليا في البحر، حتى ستبدأ في الاستمتاع بصفاء ماء البحر المالح و ستتبتهج روحك و لن تشعر أبدا بالبرد، بل فقط بالاستمتاع و البهجة.
إن هذه القاعدة التي تحصل معنا جميعا و لغرابتها إلا أنها تدعونا إلى أن نفكر في الحياة و التجارب بمنطق آخر.
فنحن غالبا ما نحكم على موقف أو حدث ما بأنه سيئ أو جيد و نحن ما زلنا في حاشيته أي لم نغطس فيه بعد و لكن فقط نراه من السطح فنقرر بأنه صعب أو جيد أو تعيس أو ما إلى ذلك.
بينما إذا منحنا المواقف كل ذرة من كياننا فإنها في الغالب ستتحول إلى مواقف جميلة تزودنا بالثراء الروحي.
و هنا بدر في ذهني قصة الدكتور فيكتور فرانكل الذي عرضها في كتابه " الإنسان يبحث عن معنى"، إذ تعرض لتجربة قاسية جدا في السجن النازي، و مع ذاك فهو استطاع أن يتعلم منها و يستفيد منها و أن يتجاوزها لأنه حاول أن يعطي كله لزملائه و حتى لسجانيه حيث كان يحاول أن يظل مفيدا و متعاونا مع الجميع و كان يحاول أن يشغل دماغه بتفاصيل الجمال الإنساني بدل التركيز على جزء واحد من قصته.
فالأحداث أو الحياة عموما مهما بدت قاسية أو جميلة فهي في الواقع تبقى محايدة، و لكن ما نقدمه نحن لها هو ما يصنع الفارق. و لهذا كلما انغمس الإنسان كليا في العمل و الحياة و في كل ما يفعله كلما قل الألم و اختفت المعاناة.
و لكن ما يحدث عادة هو أننا ننغمس في ذواتنا بدل أن ننغمس في الحياة و الفعل. و هذا بالضبط هو الفصل الرئيسي لسبب معاناة الإنسان التي لا تنتهي.
فلو تأملت طفلا صغيرا الذي مازالت له الفطرة السليمة، أي مازالت روحه هي التي تقوده و ليس عقله، فإنك ستجده منغمسا كلية في كل فعل يقوم به حتى لو بدا لنا نحن الكبار بأن ذلك الفعل تافها كمحاولة غلقه لقنينة فارغة.
فالطفل الصغير يعطي كل ذرة فيه لكل فعل يقوم به، فحتى أثناء البكاء يبكي بحرقة و بصراخ مرتفع تجعل قلوبنا تتقطع نحن الكبار، و لكن هو ما إن ينتهي من نوبة البكاء حتى يعود إلى روحه و انشغالاته ناسيا الموضوع برمته.
و لكن نحن الكبار، لا ننغمس مثل الصغار، و لهذا لا نتخلص تماما من أحداث الماضي و نركز على ما نقوم به في الحاضر.
فالطفل إذا بكى بكى و إذا ضحك ضحك و إذا لعب لعب... أما نحن نبكي و نحن نفكر متى ننتهي من كل هذا، نشتغل و نحن نفكر في عمل آخر علينا إنجازه، نضحك و نحن نفكر هل ضحكتنا بصوت مرتفع تزعج من حولنا...
![]() |
عمق البحر يذكرنا بعمق النفس، فالإثنين لا قرار لهما و لا يمكن الوصول إلى نقطة حدودهما |