مقياس الشغف
الإنسان كائن عجيب،فتماما كما في نومه يتقلب ذات اليمين و ذات الشمال، فكذلك في يقظته. فبين حين و حين يبحث عن موضة جديدة، مفهوم جديد، وسيلة عيش مختلفة. هكذا هو. إذا لم يتجدد يصيبه الملل و القنوط و يصبح كالمياه الراكدة: متعفن.
فأذكر في العقد الماضي كان الإعلام يركز على الرفاهية و على الاستهلاك، فكنت دائما أجد في المجلات مقالات عن الرفاهية أو le bien être، و فن الحياة. ثم انتقل إلى مفهوم "الحياة زن" أو vivre zen. و انتقل من الاستهلاك إلى البساطة vivre minimaliste.
و حاليا برز مفهوم أو موجة جديدة، فالجميع يريد أن يعيش بشغف، و كل فرد إذا تحدثت معه يقول لك: أنا أبحث عن شغفي، لم أعثر بعد على شغفي، أنا لا أعرف ما هو شغفي...
و لا يوجد عيب في هذا، فالإنسان خلق ليجرب و يتدبر و يختبر ثم لينقل تجاربه إلى العالمين. فليس من محض الصدفة أن تكون أول سورة نزلت في القرآن الكريم هي سورة العلق التي ابتدأت ب "أقرأ"، و ثاني سورة هي القلم التي ابتدأت ب " نون و القلم و ما يسطرون".
فيمكن أن نقول بأن حياة الإنسان تتلخص في المعرفة و التعلم و التجارب، ثم نقل هذه الخبرة إلى كل الأجيال عبر التدوين أو عبر الأفكار و المشاريع و الاختراعات.
فلا عجب أن يتقلب الإنسان ذات اليمين و ذات الشمال، و أن يجرب بين حين و حين، و الحق أن الشغف يمنح للإنسان رغبة في الحياة و طاقة للإنتاج. فهو يشبه مولد كهربائي قادر على أن يشحننا من الداخل. بيد أنه من الأكيد بعد مضي بضع سنوات سينتهي هذا المفهوم أيضا و سيظهر مفهوم جديد آخر.
لأن الشغف، و لو كان مهما إلا أنه لا يمنح السعادة كما يعتقد جل من يبحث عن الشغف. و إلا لماذا انتحر الرسام فان كوخ و الكاتب إرنست همينغواي و الفنان الكوميدي الراقي روبن وليامز و الممثلة المثيرة مارلين مونرو و المغنية المتميزة داليدا. فالشغف وحده لا يكفي لمواجهة تحديات الحياة. و لكنه شيئ جيد لأنه يضمن لك أن تظل حيا في قلوب الناس و لو مرت مئات السنين. فالشغف بطريقة ما يجعلك تحيا في الأرض إلى أن تفنى.
و لكن ما هو مقياس الشغف؟
أعتقد بأن الإنسان الذي يبحث عن شغفه، إذا أراد أن يكتشفه عليه أن يجيب على النقاط التالية:
1- ما الذي يمكنه القيام به بدون أن يشعر بالملل رغم التعب؟
تعرفت في دروس الرسم، على فتاة لم ترسم مطلقا، و لكن في ظرف ستة أشهر حققت تقدما ملحوظا حيث أصبحت ترسم أحسن باحترافية عالية. فسألتها، كم تستغرق في الرسمة الواحدة؟ فأجابتني ثلاثة إلى أربعة أيام.
و المغني البلجيكي "جاك بريل" ، عندما سأله صحفي ما هي الموهبة؟ أجابه "بريل" : هي الرغبة في عمل ذلك الشيئ.
و لا عجب، فما لا يعرفه الكثيرون هو أن الفنان العبقري بيكاسو كان يرسم يوميا اربعة عشر ساعة متواصلة، و أديسون كان يشتغل في معمله عشرون ساعة في اليوم.
فالآن إذا جائتك فرصة ما لعمل شيئ ما ثم وجدت أنك مستغرق فيه و لا تريد أن تغادره رغم تعب بدنك فاعلم أنه شغفك.
2- تواصل رغم الصعوبات و التحديات
بل إنك في حقيقة الأمر لا تدرك بأنها صعوبات و تحديات. و هذه النقطة، أشار لها الكوميدي المغربي " حسن الفذ"، حيث سأله أحد الصحفيين هل واجه صعوبات؟ فأجابه بأنه لم يكن يشعر بها حتى لو وجدت.
فإذا كنت تشتغل في شغفك، فإنك تكون أقدر على مواجهة مختلف التحديات و الصعوبات، و لا تيأس أبدا. فما يبدو للناس عامة متعب و بدون حل يبدو لك عاديا و يمكن مواجهته.
3- لا تتطلع إلى النتيجة
فلا يكون الربح هو شغلك الشاغل، و لا تفكر فقط في الأرباح و جني المال. و لكنك تفكر في أن يكون عملك جيدا كما تتصوره و تتخيله أنت.
و لهذا حتى لو فشلت في بداية طريقك من الحصول على الربح المادي فإنك تواصل ما بدأته لأنك تدرك قيمة ما تفعل. و خير دليل على ذلك الرسام " بول غوغان"، الذي لم يتمكن من بيع لوحاته و مع ذاك ظل مؤمنا بفنه و بموهبته متيقنا بأن أعماله ستنال حظها.
4 - لا بد أن تحصل على نتيجة و لو بعد حين
لو فعلا وجدت شغفك، فإنه سيقودك إلى النجاح و حب الناس لما تقوم به و لو بعد حين. و لو كنت فعلا موهوبا، فلا بد أن تنال شهرتك و لو بعد مماتك. و هنا أمثلة عدة و نذكر منها الرسامين " فان غوخ" و " بول غوغان". و لكن يوجد الكثيرون ممن اشتهروا بعد مماتهم و لم ينالوا حظا في حياتهم. و لكن ذلك لم يمنعهم من العطاء و البذل.
فلو سألني أحدهم، ما هو الشغف؟ لأجبته هو أن تبذل روحك بحب و رضا.
![]() |
الشغف يجعل جسدك خفيفا و روحك هي التي تسمو |